كشفت الجولة الثانية من الانتخابات البلدية والاختيارية في جبل لبنان مزيداً من اسرار هروب القوى السياسية من الانتخابات النيابية وعدم جرأتها على مواجهة ناخبيها اولاً، وتجنباً لانكشاف احجامها الحقيقية بعد ضمور الضخ المالي العربي والخليجي الذي اثبت انه صرف في العام 2009 وخصوصاً لمواجهة "التيار الوطني الحر" وقوى 8 آذار وخصوصاً "حزب الله".
والمفارقة في هذا السياق ورغم كل الحديث عن مال سياسي ورشى لتجيير الاصوات وشرائها لمصلحة فريق دون آخر، لم يظهر حتى الآن الا بضع حالات قد لا تتجاوز اصابع اليد العشرة، وهناك موقوفون في هذا الامر. لكن في انتخابات العام 2009 النيابية كان المال يصرف بملايين الدولارات وعلى عينك يا تاجر من دون حسيب ولا رقيب. اما اليوم فساهم رفع الصوت المدني والمراقبة لعملية الانتخابات على التخفيف الكبير من عملية شراء الذمم والضمائر.
في انتخابات جبل لبنان البلدية والاختيارية امس الاول تكشفت حقائق اضافية ولها معنى كبير في السياسة، وقد تشكل وجهة سير الانتخابات النيابية العام المقبل. الحقيقة الاولى ان تحالف القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر اثبت ميدانياً بعد تجربتي انتخابات بلدية بيروت وخصوصا في دائرة بيروت الثالثة وبلدية زحلة، انه قابل للاهتزاز العنيف كلما شعرت القوات اللبنانية ان التحالف لا يخدم غرضها الاساسي، وهو قضم حضور المد العوني والتحجيم من حصته ومحاولة تجييرها لها، بينما يفترض بالحليف الحقيقي ان يزيد من حصته "المشروعة" بفعل التحالف مع التيار الوطني الحر. فتفاهم معراب بين القوات والتيار اهتز وترنّح في بيروت والاشرفية والرميل والصيفي وزحلة، فكشف ان القوات تريد تصفية حسابها مع "المستقبل" عبر استعمال ورقة التحالف مع التيار، فتسحب من يده "ورقة الحقوق المسيحية"، التي يمتعض القواتيون كثيراً من استعمال العونيين لها ويعتبرونه مزايدة للبروباغندا الشعبية، كما يشعرون بالحنق كلما صدح صوت العماد ميشال عون بالقول انه يمثل اكثرية مسيحية شعبية وبرلمانية ووزارية بكامل المواصفات الشرعية والدستورية كونه يمتلك التفويض المسيحي والوطني عبر صناديق الاقتراع.
في جونيه، امس الاول، أكد القواتيون وتحالف العائلات الكسروانية ان الحرب السياسية على ميشال عون مبعثها الاول من البيت الماروني والمسيحي، ومن اهل البيت انفسهم في القضاء الواسع وعرين عون الشعبي والسياسي والانتخابي والنيابي. ففارق الاصوات الذي لم يتجاوز الـ 50 صوتا لمصلحة اللائحة المدعومة من عون، يؤكد ان القوات خاضت حرب الغاء سياسيا ضد التيار البرتقالي بالتحالف مع العائلات المليئة بالمال والعلاقات والنفوذ وايضاً بشبكة العلاقات والاحترام، وليتبين بالدليل القاطع ان "مصالحة" التيار والقوات لم تكن الا شيكاً بلا رصيد منحه جعجع لعون عبر تبني ترشيحه الى الرئاسة الاولى.
في المقابل اهتزاز تفاهم معراب - الربية وترنحه المتكرر ووقوفه على حافة الانهيار في جونيه وقضاء كسروان وفي بعبدا، سمحت لاعادة التذكير بالنفوذ الذي يمتلكه النائب ميشال المر في المتن وبتأكيد تحالفه المتين مع الطاشناق والكتائب اللبنانية، وبـ"لقاء الضرورة" مع الحزب السوري القومي الاجتماعي. حيث حقق هذا الثلاثي مكاسب كبيرة على ظهر الثنائي المسيحي، علماً ان "القومي" يكتسب قوته من مروحة انتشاره الواسعة والعابرة للطوائف في كل لبنان وفي صميم الطوائف كلها.
في "الفالق" الآخر من انتخابات جبل لبنان وخصوصاً في الجبل، استفاد الاشتراكيون من التحالف المسيحي لـ"الهروب" من معارك التماس المذهبية والطائفية في بعض البلدات المختلطة، واستفاد القوميون والارسلانيون من التراجع الجنبلاطي، ومن الكباش العوني - القواتي في بعض البلدات ليؤكدوا انهم اصحاب حضور واسع واهل مشروعية شعبية كبيرة عندما يخف ضغط الاشتراكيين على المفاتيح الاساسية ويتوقف التلويح بالحرم الوظيفي والخدماتي الذي يمتلك اسراره جنبلاط وحده بين المختارة وكليمنصو.
التفاهم الذي يتحول شيئاً فشيئاً الى "سوء تفاهم" بين القوات والتيار الحر، كان يريد منه الدكتور سمير جعجع وكما ردد المتحمسون في القوات والتيار ان يصبح جسر عبور الى تفاهم ثلاثي كامل مع حزب الله بالحد الاقصى او الى تفاهم على القطعة معه في حده الادنى. لكن آمال جعجع وطموحات عون الصادقة لتوسيع التفاهمات الوطنية اصطدمت برفض كامل للفكرة والمبدأ من قبل حزب الله وكل احزاب 8 آذار التي ترى في سمير جعجع كل الصفحات السود منذ العام 1975 وحتى العام 1994 والصفحات الملتبسة منذ العام 2005 حتى اليوم.
وكلما ادرك سمير جعجع ان "ورقة عون الرئاسية" احترقت وان استفادته من تفاهم معراب مستمرة، سيبقى يدوزن بين العلاقة مع عون وبين ابقائه تحت سيطرته والقضم من حضوره وانتشاره وشرعيته المسيحية الواسعة.